صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم
الأربعاء, 17 أبريل 2024 07:43

 

(الحلقة الأولى)

 

1 - خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج:

        لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج أَعْلَمَ الناسَ أنه حاج هذا العام؛ كما أخرجه النسائي، وابن الجارود، وأحمد. فقدم المدينة بشر كثير.

        وفي رواية: فلم يبق أحد -كما رواه النسائي، والدارمي- يقدر أن يأتي؛ راكبا أو راجلا إلا قدم، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. ووافاه في الطريق خلائق لا يُحْصَوْنَ، فكانوا من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، مد البصر؛ كما رواه أبو داود، والدارمي، وابن ماجه، وابن الجارود.

وخطب الناس في المسجد النبوي -كما أخرجه البخاري، ومسلم، عن ابن عمر- وفي رواية لأحمد: على هذا المنبر. وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم في كل وقت ما يحتاجون إليه إذا حضر فعله، وهو صلى الله عليه وسلم أحْرَصُ الناس على تعليمهم الدينَ وذكر لهم شأن الإحرام وما يلبس المحرم بالمدينة ولم ينه عن شيء من الأُزُرِ والأَرْدِيَةِ أن يُلْبَسَ إلا المزعفر؛ كما قال ابن عباس عند البخاري. وحدد المواقيت كما عند البخاري عن ابن عمر، ومن طريق جابر رضي الله عنه. روى تحديد مواقيت الإحرام مسلم، وأبو نعيم في "المستخرج" وابن ماجه، والشافعي في "مسنده" والطيالسي، والبيهقي، وأحمد.

        وخرج من المدينة نهارا بعد أن صلى بهم الظهر أربعا، لخمس بقين من ذي القعدة -أو أربع- كما رواه النسائي، وابن الجارود، والبيهقي.

        قال جابر -كما رواه مسلم، وأبو نعيم-: خرجنا معه؛ معنا النساء، والولدان. فلما أتوا ذا الحليفة -كما رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه- ولدت أسماء بنت عميس -زوجةُ أبي بكر رضي الله عنهما- محمدَ بن أبي بكر، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل، وتستـثـفر بثوب، وتحرم، وتهل. وقال ابن الأثير في النهاية إن معنى: "تستـثـفر" هو أن تشد فرجها بخرقة عريضة بعد أن تحتشي قطنا وتوثق طرفيها في شيء تشده على وسطها فتمنع بذلك سيلان الدم.

        قلت: ومما يؤخذ من قصة هذه الصحابية رضي الله عنها:

1 - الغسل للإحرام، وأن الحائض تغتسل لإحرامها، وأن الإحرام يصح من الحائض.

2 - مشروعية ما تفعله الحِيَّضُ في زماننا هذا من مكافحة سيلان الدم بالوسائل العصرية كـ"الريب" وما يشبهه.

        ثم ترجل صلى الله عليه وسلم وادَّهَنَ، ولبس إزارهَ، ورداءهَ، هو وأصحابه، كما رواه البخاري عن ابن عباس، فنزل بذي الحليفة، فصلى به العصر ركعتين ثم بات به كما أخرجه البخاري عن أنس، وصلى به المغرب، والعشاء، والصبح، والظهر، كما رواه النسائي عن أنس بسند رجاله ثـقات.

        وكان نساؤه أمهات المؤمنين كلهن معه. وطاف عليهن تلك الليلة كما رواه البخاري ومسلم عن عائشة.

فلما أراد الإحرام اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه غير غسل الجنابة الأول.

        قلت: ويؤيد هذا ما أخرجه الترمذي -وحسنه- والدارمي، والبيهقي، أن زيد بن ثابت قال (…) إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل. وأخرج الدارقطني، بسند رجاله ثقات، أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بِخَطْمِيٍّ وَأُشْنَانٍ. ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطِيبٍ فيه مسكٌ في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته كما رواه البخاري، ومسلم، عن عائشة. ثم استدامه ولم  يغسله للإحرام، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أَهَلَّ بالحج والعمرة في مصلاه، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. وفي رواية، ثم ركب القصواء -اسم ناقته صلى الله عليه وسلم- حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالحج، وفي رواية أفرد الحج كما رواه ابن ماجه وابن سعد وزاد ابن ماجه: هو وأصحابه. وفي رواية للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة.

        قلت: والذي قاله عبد الله بن عمر -عند مسلم- من الصلاة يعني سنة الظهر لا الإحرام.

        وَخَيَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته عند الإحرام بين الأنساك الثلاثة، ثم ندبهم عند دُنُوِّهِمْ من مكة إلى فسخ الحج والقِران إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي، ثم حتّم ذلك عليهم عند المروة؛ فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا مكة تَطَوَّفْنَا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل قالت: فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه (صلى الله عليه وسلم) لم يسقن الهدي فأحللن.

        والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا: وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج.

        ـ وروى البخاري أيضا في صحيحه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِّن رَّبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ». وبعد أن استوت به ناقته القصواء على البيداء، ـ كما ذكرت آنفا ـ أهل بالتوحيد الذي أخرجه مالك في "الموطإ" والبخاري، ومسلم، عن عبد الله بن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ».

        قلت: التلبية هي إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم عليه السلام. والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره كما ينقاد الذي لبب وأخذ بِلَبَّتِهِ.

        وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى إن المعنى: أنا مجيب لدعوتك ومستسلم لحكمك، مطيع لأمرك، مرة بعد مرة، لا أزال على ذلك.

        والناس معه صلى الله عليه وسلم يزيدون في التلبية وينقصون، وهو يقرهم ولا ينكر عليهم.

        وقال مالك والشافعي -رحمهما الله- إن الاكتفاء بتلبيته صلى الله عليه وسلم أفضل؛ لملازمته صلى الله عليه وسلم لها.

        والناس كانوا يزيدون -كما رواه أحمد، والبيهقي، بسند صحيح؛ من حديث جابر بن عبد الله-: لبيك ذا المعراج، لبيك ذا الفواضل.

        ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالأبواء -كما رواه البخاري، ومسلم، ومالك- أهدى له الصعب بن جَثَّامَةَ حمارا وحشيا -وفي لفظ لمسلم: لحم حمار وحشي- فرده عليه وقال: «إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ».

        فلما كان بِسَرِف -كما رواه البخاري، ومسلم- حاضت عائشة رضي الله عنها، وقد كانت أَهَلَّتْ بعمرة، فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، قال: «مَا يُبْكِيكِ لَعَلَّكِ نُفِسْتِ»؟ قالت: نعم، قال: «هَذَا شَيْءٌ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَن لاَّ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ».

قلت: سرف: موضع قرب التنعيم كما في النهاية.

ـ واختلف الفقهاء في مسألة مبنية على قصة عائشة هذه، وهي أن المرأة إذا أحرمت بالعمرة، فحاضت، ولم يمكنها الطواف قبل التَّعَرُّفِ -أي قبل أن تطهر- فهل ترفض الإحرام بالعمرة وتهل بالحج مفردا؟ وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه.

أم عليها أن تُدْخِلَ الحجَّ على العمرة وتصير قارنة؟ وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد؛ وهو مذهب أهل الحديث.

 

*طالع في الحلقة القادمة:

دخول مكة والطواف