(الحلقة السابعة)
كان صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة قال: «اَلَّلهُ أَكْبَرُ»52 ولم يقل شيئا قبلها ولا يلفظ بالنية ويرفع يديه مع53 التكبير ممدودتي الأصابع54 مستقبلا بهما القبلة إلى فروع أذنيه55 وروي إلى منكبيه56 ثم يضع يمناه على ظهر يسراه قابضا بها عليها57 ثم يقول سرا: «اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدتَ بَيْنَ الْمَشْرِقْ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اَغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» كما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قاله لأبي هريرة لما سأله عما يقول في سكوته بين التكبير والقراءة، وروي عنه غير هذا من الاستفتاحات58 لكن ما في الصحيحين أصح.
قال ابن العربي في الجزء الأول من الأحكام وحديث أبي هريرة متفق عليه وما أحقنا بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك لولا غلبة العامة على الحق، وقال أيضا في عارضته وكلمات النبي صلى الله عليه وسلم أحق بالقول. وقال الشوكاني في الجزء الأول من نيل الأوطار ما نصه: ولا يخفى أن ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أولى بالإيثار والاختيار وأصح ما روي في الاستفتاح حديث أبي هريرة اهـ. وقال أيضا في شرحه للحصن الحصين ما نصه: وهذا الحديث أصح الأحاديث الواردة في التوجه - البرد محركة حَبُّ الغمام أي بأنواع المطهرات والمراد مغفرة الذنوب وسترها بأنواع الرحمة والألطاف. قيل “والخطايا” لكونها مؤدية إلى نار جهنم نزلت منزلتها فاستعمل في محوها من البرودات ما يستعمل في إطفاء النار اهـ. قال ابن دقيق العيد: عبر بذلك عن غاية المحو فإن الثوب الذي تكرر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء. قلت: وأخذ بالاستفتاح الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو داود وأصحابهم وحجتهم ما رأيت59، ثم يقول: «أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ60. فالأول الجنون والثاني الكبر والثالث الشعر61، وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ويخفيها تارة62 ويتركها تارة، تواتر كل ذلك عنه، ثم يقرأ الفاتحة وكانت قراءته مدا يقف عند كل آية63 ويمد بها صوته64 فإذا فرغ من قراءة الفاتحة قال: «آمِين» فإن كانت الصلاة جهرية مد بها صوته65 وقالها من خلفه حتى إن للمسجد لجبة وروي للجبة بموحدة وتخفيف الجيم وروي لرجة بالراء وهي الأصوات المختلطة. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ» أخرجه الشيخان والأربعة وغيرهم. قال ابن العربي في العارضة: قال علماؤنا: معنى قوله: «إذا أمن الإمام».. إذا بلغ موضع التأمين وهذا بعيد لغة بعيد شرعا عما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله. وقال الحفيد في البداية وهذا عدول عن الظاهر. وأخرج الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححاه عن نعيم المجمر قال كنت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ {ولا الضالين} قال: آمين، وقال الناس: آمين. ويقول كلما سجد: الله أكبر وإذا قام من الجلوس قال: الله أكبر ويقول إذا سلم والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن حزم في المحلَّى بعد ذكره أحاديث التأمين ما نصه: فهذه آثار متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول آمين وهو إمام في الصلاة يسمعها من وراءه وهو عمل السلف. وقال الشوكاني في شرح الحصن الحصين: وقد ثبت في مشروعية التأمين سبعة عشر حديثا كما أوضحته في شرحي للمنتقى وبه قال الجمهور وليس بيد من خالف في ذلك شيء يصلح للتمسك به أصلا. وفي آمين أربع لغات: أفصحهن وأشهرهن آمين بالمد والتخفيف والثانية بالقصر والتخفيف والثالثة بالإمالة والرابعة بالمد والتشديد، فالأوليان مشهورتان والثالثة والرابعة حكاهما الواحدي، والمختار الأولى، قاله النووي في الأذكار. وقال ابن العربي في الأحكام قيل إنها اسم من أسماء الله تعالى وقيل معناه اللهم استجب وضعت موضع الدعاء اختصارا وقيل معناه كذلك يكون والأوسط أصح وهذه كلمة لم تكن لمن قبلنا خصنا الله سبحانه بها في الأثر عن ابن عباس أنه قال كما حسدكم أهل الكتاب على شيء ما حسدوكم على قولكم آمين. قلت أخرجه ابن ماجه ولفظه ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين، وأخرج ابن ماجه أيضا وأحمد والبيهقي في سننه عن عائشة ترفعه: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على التأمين». وأخرج البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن خزيمة عن عائشة مرفوعا: «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين»66 وتفتح في الوصل لأنها مبنية بالاتفاق مثل كيف، وإنما لم تكسر لثقل الكسر بعد الياء.
فإذا أمن صلى الله عليه وسلم سكت. صح عنه ذلك في حديث سمرة بن جندب وأبي بن كعب رضي الله عنهما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الحاكم وصححه الدارمي والبيهقي67، قال العلماء في هذه السكتة لأجل قراءة المأمون فعلى هذا ينبغي تطويلها بقدر قراءة الفاتحة، قال ابن حزم في المحلَّى: ويقرأ المأموم في السكتة الأولى أم القرآن فمن فاتته قرأ في السكتة الثانية وقد فعل ما قلنا جمهور السلف اهـ كلامه بلفظه، ثم يأخذ صلى الله عليه وسلم في قراءة سورة وكان يطيلها تارة ويخففها تارة ويتوسط فيها غالبا68 فإذا فرغ من قراءتها سكت69 بقدر ما ترتد إليه نفسه ثم رفع يديه70، كما تقدم وكبر راكعا71، ووضع كفيه على ركبتيه72، كالقابض عليهما73، وجافى يديه عن جنبيه74، وبسط ظهره ومده واعتدل ولم يرفع رأسه ولم يخفضه؛ بل يجعله حيال ظهره معادلا له75. ثم يقول: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلاَثًا»76، وتارة يقول -مع ذلك أو مقتصرا عليه-: «سُبُّوحٌ قُدُوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوح»77، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»78 وكان ركوعه المعتاد مقدار عشر تسبيحات79 ثم يرفع رأسه ويديه كما تقدم ويقول: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»80 فإذا استوى قائما قال: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد»81 أو «رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» وربما قال: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ82 أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مَعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»83 قال ابن حزم في المحلَّى بعد ذكره طرق أحاديث هذا الدعاء ما نصه: فهذه آثار متظاهرة وأحاديث متواترة وروايات متناصرة ولا يسع أحدا الرغبة عنها. (كلام ابن حزم بلفظه).
———————
52 - رواه: مسلم وابن ماجه.
قلت: وأمر بالتكبير المسيء صلاته كما رواه البخاري ومسلم فقال: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ استقبل الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ». وكان يقول صلى الله عليه وسلم: «مفتاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
53 - قلت: وكان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه تارة مع التكبير وتارة قبله كما رواه البخاري والنسائي وتارة بعد التكبير كما رواه البخاري وأبو داود.
54 - لا يفجر بينها ولا يضمها كما رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
55 - رواه: البخاري وأبو داود.
56 - رواه: البخاري والنسائي.
57 - رواه: مسلم وأبو داود.
قلت: وروى ابن حبان بسند صحيح أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم «إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا بِتَعْجِيلِ فِطْرِنَا وَتَأَخِيرِ سُحُورِنَا وَأَنْ نَضَعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلَنَا فِي الصَّلاَةِ».
58 - وروى النسائي والدارمي وابن ماجه وأبو داود والترمذي أنه كان صلى الله عليه وسلم يستفتح سرا فيقول: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ». واللفظ للنسائي.
قلت: والمعنيى «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ» أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك يا الله.
وقوله «وَبِحَمْدِكَ» قيل معناه: أجمع لك بين التسبيح والحمد «وَتَبَارَكَ اسمك» أي البركة تنال بذكرك «وَتَعَالَى جَدُّكَ» أي جلت عظمتك «وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ» أي لا معبود بحق في الأرض، ولا في السماء سواك يا الله.
59 - قلت: روى أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي أنه صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته فقال له: «لاَ تَتِمُّ صَلاَةٌ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَثْنِي عَلَيْهِ وَيَقْرَأَ بِمَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ».
60 - رواه: أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه هو وابن حبان والذهبي.
61 - قال الإمام الألباني رحمه الله في كتاب الصلاة إن المراد بالشعر هنا الشعر المذموم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كما رواه البخاري: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً».
62 - قلت: والإخفاء رواه البخاري ومسلم وأبو عَوانة والطحاوي وأحمد.
والجهر بها لم أجد له حديثا صحيحا يعتمد عليه. والله أعلم.
63 - رواه: أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
64 - وروى البخاري ومسلم وأبو عَوانة والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
65 - رواه: البخاري وأبو داود بسند صحيح.
66 - قلت: ومع الذين ذكرهم الإمام محمد رحمه الله فقد روى الحديث ابن ماجه وأحمد بسندين صحيحين.
67 - قلت: حديث سمرة بن جندب هذا ضعفه الإمام الألباني في تعليقه على سنن الترمذي وتعليقه على ابن ماجه. والله أعلم.
68 - روى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ صَبِيٍ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ» وروى مسلم والطحاوي أنه قال: «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ طُولُ الْقِيَامِ».
69 - رواه: أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
70 - رواه: البخاري ومسلم.
71 - رواه: البخاري ومسلم.
72/73/75 - رواه: البخاري وأبو داود.
قلت: حتى لو صب عليه الماء لاستقر كما رواه الطبراني في الكبير والصغير وعبد الله بن أحمد في رواية “المسند” وابن ماجه. وروى أبو عوانة وأبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تُجْزِئ صَلاَةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ».
76 - رواه: الترمذي وصححه ابن خزيمة.
77 - رواه: أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبزار والطبراني في الكبير.
78 - رواه: مسلم وأبو عَوانة.
79 - رواه: البخاري ومسلم.
80 - وروى البخاري ومسلم أنه كان صلى الله عليه وسلم يجعل ركوعه وقيامه بعد الركوع وسجوده وجلسته بين السجدتين قريبا من السواء.
81- رواه: البخاري ومسلم.
82- رواه: البخاري ومسلم.
83 - رواه: مسلم وأبو عَوانة.
-يتواصل-
|