صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين يكبر إلى أن يسلم |
الثلاثاء, 10 سبتمبر 2024 07:18 |
(الحلقة الثامنة) وأخرج الخمسة عن أبي هريرة مرفوعا: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ». وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال بعد الركوع: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يَحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى: «لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ»84. قال السهيلي: روي أول بالضم على البناء لأنه ظرف قطع عن الإضافة، وبالنصب على الحال. وفي بعض روايات الصحيح «أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِهَا أَوَّلُ» وعند الطبراني «أَيُّهُمْ يَرْفَعُهَا». قال الحافظ: ولا تعارض بين روايتي يكتبها ويصعد بها لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها، والظاهر أنهم غير الحفظة. وفيه أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة، وفي رواية ابن ماجه: «لَقَدْ فُتِحْت لَهَا أَبْوَابُ السماءِ فما نهنهها شيء دون العرش». قال محشيه: قوله: «نهنهها شيء دون العرش» من نهنهت الشيء إذا زجرته ومنعته والمراد سرعة حضورها في ذلك المحل. وحدث صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنبَغِي لِجَلاَلِ وَجْهِكَ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ فَعَضَلَتْ بِالْمَلَكَيْنِ فَمَا دَرَيَا كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا فَصَعَدَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالاَ: يَا رَبَّنَا إِنَّ عَبْدَكَ قَدْ قَالَ مَقَالَةً لاَ نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ -وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدَهُ-: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ قَالاَ: قَالَ: يَا رَبِّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلاَلِ وَجْهِكَ وَلِعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يَلْقَانِي فَأَجْزِيهُ بِهَا» أخرجه ابن ماجه. قال محشيه: قوله: «فعضلت بالملكين» الظاهر أن ضمير عضلت لهذه الكلمة والباء في بالملكين للتعدية. يقال: أعضلني فلان أي أعياني أمره، وقوله: «فما دريا كيف يكتبانها» تفسير له. وفي مجمع الزوائد أن في إسناده قدامة بن إبراهيم ذكره ابن حبان في الثقات وصدقه ابن بشير ولم أر من جرحه ولا من وثقه وباقي رجال الإسناد ثقات. وقال ابن الأثير في النهاية: وأصل العضل المنع والشدة يقال: أعضل بي الأمر إذا ضاقت علي فيه الحيل، ومنه فأعضلت بالملكين الحديث. وكان صلى الله عليه وسلم يمكث حتى يقول القائل: قد نسي من إطالته لهذا الركن85 ثم يكبر ويخر ساجدا86، ولا يرفع يديه،87 ويـضع ركبـتيه قبل يديه،88 ثم يضع جبهته وأنفه؛ هذا هو الصحيح. ولا يسجد على كور العمامة؛ بل كان سجوده الغالب على الأرض، وربما سجد على الماء والطين وعلى الْخُمرة المتخذة من خوص النخل،89 وعلى الحصير المتخذ منه،90 وعلى الفروة المدبوغة. وكان إذا سجد مكن جبهته وأنفه من الأرض91 وجافى يديه حتى يرى بياض إبطيه،92 ولو شاءت بهمة (كرحمة، وهي الشاة الصغيرة) أن تمر تحت يديه لمرت،93 ويضع يديه حذو منكبيه94 وأذنيه95 ويعتدل في سجوده96 ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة.97 وكان يقول: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى»98 وأمر به. وكان يقول أيضا: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»99 وكان يقول أيضا: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِن سَخَطِكَ وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنكَ لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ»100 وكان يقول أيضا: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلاَنِيَتُهُ وَسِرَّهُ101 اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّيَّ وَهَزْلِي وخطئي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِندِي» والأدعية الواردة عنه في السجود كثيرة. وأمر فيه بالاجتهاد في الدعاء وقال إنَهُ «قَمَنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ»102 وقوله: قَمَنٌ بفتح القاف والميم وكسرها؛ لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدر لا يثنى ولا يجمع. ومن كسر فهو وصف يثنى ويجمع. وفيه لغة ثالثة قمين –كأمير- ومعناه حقيق وجدير. وقال لخادمه الملازم له حضرا وسفرا أبي فراس ربيعة بن كعب الأسلمي المتوفى سنة ثلاث وستين من الهجرة رضي الله عنه وقد سأله مرافقته في الجنة: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ»103 وقال: «مَا مِنْ عَبْدٍ سَجَدَ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَ اللَّهُ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً»104. ثم يرفع رأسه مكبرا105 غير رافع يديه106 رافعا رأسه قبل يديه، ثم يجلس مفترشا رجله اليسرى ويجلس عليها107 وينصب اليمنى108 ولم يحفظ عنه في هذا الموضع جلسة غير هذه109 ويضع يده اليسرى على ركبته اليسرى110 ويضع حد مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى111، ويعقد ثلاثين ويحلق بواحدة ويشير بأصبعه السبابة يدعو بها112 ثم يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي»113 وكان يقول أيضا: «رَبِّ اغْفِرْ لِي» ثَلاَثًا أو أكثر،114 ويطيل هذا الركن حتى يقول القائل: قد نسي115 كما يفعل في القيام بعد الركوع. وقد ترك أكثر الناس الطمأنينة في هذين الركنين فضلا عن السنة فيهما حتى قال الشعراني إن التقصير في الاعتدال من الركوع مطلوب. والله الموفق. قال ابن تيمية: وتقصير هذين الركنين مما تصرف فيه أمراء بني أمية في الصلاة، وأحدثوا فيها ترك إتمام التكبير، وكما أحدثوا التأخير الشديد، وكما أحدثوا غير ذلك مما يخالف هديه عليه الصلاة والسلام، وربا في ذلك من ربا حتى ظن أنه من السنة (كلامه بلفظه). وقال مجد الدين في سفر السعادة: وتخفيف هذين الركنين من محدثات أمراء بني أمية ولم يكن من العادات النبوية بوجه من الوجوه. ﴿والله يقول الحق وهو يهدي السبيل﴾. (كلامه بلفظه). وقال ابن القيم في أواخر الجزء الأول من تهذيبه لسنن أبي داود ما نصه: وقد ثبت تطويل هذين الركنين عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث صحيحة صريحة. (كلامه بلفظه). وأخرج الشيخان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: كان أنس يصنع شيئا لم أركم تصنعونه: كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل: قد نسي، وبين السجدتين حتى يقول القائل: قد نسي. قلت:ثابت المذكور هو أبو محمد ثابت بن أسلم البُناني (بضم الباء) من ولد سعد بن لؤي بن غالب -وبنانةُ أمه نسب إليها- وهو التابعي الثقة العابد المتوفى بالبصرة سنة ثلاث وعشرين ومائة. قال الحافظ في فتح الباري ما نصه: في قوله: قال ثابت: كان أنس.. الخ، إشعار بأن من خاطبهم كانوا لا يطيلون الجلوس بين السجدتين ولكن، السنة إذا ثبتت لا يبالي من تمسك بها بمخالفة من خالفها والله المستعان (كلامه بلفظه). وقال ابن القيم في كتاب الصلاة وأحكام تاركها ما نصه: فالأمران اللذان وصف بهما أنس صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هما اللذان كان الأمراء يخالفونهما وصار ذلك -أعني تقصير الاعتدالين- شعارا، حتى استحبه بعض الفقهاء وكرهوا إطالتهما، ولهذا قال ثابت: كان أنس يصنع شيئا.. الخ، فهذا الذي فعله أنس هو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، وإن كره من كره، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بالاتباع (كلامه بلفظه). وفي الجزء الأول من حاشية عماد الدين ابن الأثير الحلبي على إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد في الكلام على تطويل الاعتدال من الركوع ما نصه: وقد ترك الناس في زماننا هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من عالم وفقيه وإمام منفرد وكبير وصغير، فليت شعري ما الذي عولوا عليه في ذلك؟! والأعظم من ذلك أنهم إذا رأوا أحدا وُفِّقَ للعمل بالمروي وأطال الاعتدال بعد الركوع تجمهروا عليه وملؤوا المسجد مكاء وتصدية وقالوا ببطلان صلاته وصلاة من اقتدى به من الناس، وإنا لله وإنا إليه راجعون. (منه بلفظه). ونحوه في الجزء الثاني من نيل الأوطار للشوكاني. ثم يكبر صلى الله عليه وسلم ساجدا ويفعل كما فعل في سجوده الأول.116 وأخرج أبو داود والنسائي عن سعيد بن جبير قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله عليه الصلاة والسلام من هذا الفتى (يعني عمر بن عبد العزيز) قال: فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات، وفي سجوده عشر تسبيحات. ثم ينهض مكبرا معتمدا على فخذيه ولا يعتمد على الأرض بيديه117. وقال أبو سليمان مالك بن الحويرث رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالسا. أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي، وهذه الجلسة تسمى عند أهل العلم "جلسة الاستراحة" واختلفوا فيها هل هي من سنن الصلاة فتستحب لكل مصل؟ أو إنما يفعلها من احتاج إليها؟ فذهب الشافعي في مشهور قوله وإسحاق وداود إلى سنيتها وإلى ذلك رجع أحمد ابن حنبل، وذهب كافة فقهاء الأمصار إلى عدم سنيتها وقول بعضهم: لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته فيقوى أنه فعلها للحاجة.. فيه نظر؛ فإن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته، وإنما أخذ مجموعها عن مجموعهم. قال ابن العربي في عارضته: وقد روي عن علمائنا أنه إن أتى بهذه الجلسة سهوا فعليه السجود، وهذا وهم عظيم. قلت: وقد قيد بعض المالكية لزوم السجود بجلوس قدر التشهد أو أطول وكل ذلك خلاف الهدي النبوي. والله الهادي إلى الصواب. ـــــــــــــــــــــــــــــ 84- رواه: مالك والبخاري وأبو داود وابن خزيمة. 85- رواه: البخاري ومسلم وأحمد وابن خزيمة. قلت: وروى أحمد والطبراني في الكبير بسند صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لاَ يَنظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلاَةِ عَبْدٍ لاَ يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا». 86- رواه: البخاري ومسلم. 87- حكم رفع اليدين في الصلاة: يستحب أن يرفع المصلي يديه في الحالات التالية: - عند الركوع، والرفع منه، وعند القيام إلى الركعة الثالثة. وقد ثبت الرفع في التكبيرات الأخرى أيضا، أما الرفع عند الهُوِيّ إلى السجود والرفع منه، ففيه أحاديث كثيرة عن عشرة من الصحابة منها: عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في صلاته إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود؛ حتى يحاذي بهما فروع أذنيه. أخرجه النسائي وأحمد وابن حزم بسند صحيح على شرط مسلم، وأخرجه أبو عوانة في صحيحه كما في الفتح، ثم قال: وهو أصح ما وقفت عليه من الأحاديث في الرفع في السجود. وأما الرفع من التكبيرات الأخرى ففيه عدة أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند كل تكبيرة. ولا تعارض بين هذه الأحاديث وبين حديث ابن عمر "ولا يرفعهما بين السجدتين" لأنه ناف، وهذه مثبتة، والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في علم الأصول. وقد ثبت الرفع بين السجدتين عن جماعة من السلف، منهم أنس رضي الله عنه؛ بل منهم ابن عمر نفسه، فقد روى ابن حزم من طريق نافع عنه أنه كان يرفع يديه إذا سجد وبين الركعتين. وإسناده قوي. وروى البخاري في جزء "رفع اليدين" (ص7) من طريق سالم بن عبد الله أن أباه كان إذا رفع رأسه من السجود وإذا أراد أن يقوم منه رفع يديه. وسنده صحيح على شرط البخاري في الصحيح. وعمل بهذه السنة الإمام أحمد ابن حنبل، كما رواه الأثرم وروي عن الإمام الشافعي القول به، وهو مذهب ابن حزم (راجع المحلى) وبه قال ابن المنذر ومالك، وصح عن أنس وابن عمر ونافع وطاوس والحسن البصري وابن سيرين. وهنا سنة مهجورة ينبغي التنبيه عليها للاهتمام بفعلها؛ وهي ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهوى إلى الأرض مجافيا يديه، عن جنبيه ثم يسجد، وقالوا جميعا: صدقت، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. رواه ابن خزيمة في صحيحه (1/317 - 318) بسند صحيح، ورواه غيره. 88- أخرجه عن وائل بن حجر: أبو داود والنسائي وابن ماجه والطحاوي والدارمي والترمذي والدارقطني والحاكم والبيهقي. وقال ابن القيم: ويضع ركبتيه قبل يديه، هكذا قال عنه وائل بن حجر وأنس بن مالك. قلت: وقال عنه ابن عمر إنه كان يضع يديه قبل ركبتيه. والحديث أخرجه الطحاوي والدارقطني والحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. واختلف على أبي هريرة؛ ففي صحيح سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَبْرُك كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلِيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ»، وروى عنه المقبري عن النبي صلى الله عليه وسلم «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ» فأبو هريرة قد تعارضت الرواية عنه كما نرى وحديث وائل وابن عمر قد تعارضا، فرجحت طائفة حديث ابن عمر، ورجحت طائفة حديث وائل بن حجر، ومن هذه الطائفة الإمام محمد رحمه الله، وسلكت طائفة مسلك النسخ، وقالت: كان الأمر الأول وضع اليدين قبل الركبتين ثم نسخ بوضع الركبتين أولا، وهذه طريقة ابن خزيمة في ذكر الدلائل. وعلى أن الأمر بوضع اليدين عند السجود منسوخ فإن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ. ثم روي من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن سلمة ابن كهيل عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد قال: كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين. وهذا لو ثبت لكان فيه الشفاء؛ لكن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاري: عنده مناكير. وقال ابن معين: ليس بشيء؛ لا يكتب حديثه. وقال النسائي: متروك الحديث. وهذه القصة وهم فيها يحيى أو غيره؛ وإنما المعروف عن مصعب بن سعد عن أبيه نسخ التطبيقفي الركوع بوضع اليدين على الركبتين فلم يحفظ هذا الراوي وقال: المنسوخ وضع اليدين قبل الركبتين. وقالت الطائفة الآخذة بسبق اليدين على الركبتين: قد صح حديث ابن عمر، فإنه من رواية عبد الله بن نافع عنه:قال ابن أبي داود: وهو قول أهل الحديث. قالوا: وهم أعلم بهذا من غيرهم فإنه نقل محض. قالوا: وهذه سنة رواها أهل المدينة وهم أعلم بها من غيرهم. قال ابن أبي داود: ولهم فيها إسنادان: أحدهما محمد بن عبد الله بن حسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، والثاني: الداروردي عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. قالوا: وحديث وائل بن حجر له طريقان وهما معلولان: في أحدهما شريك تفرد به، قال الدارقطني: وليس بالقوي فيما يتفرد به، والطريق الثاني من رواية عبد الجبار بن وائل عن أبيه ولم يسمع من أبيه. فرد القائلون بسبق الركبتينبأن حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة وابن عمر، قال البخاري: حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة لا يتابع عليه؛ فيه محمد بن عبد الله بن الحسن قال: ولا أدري أسمع من أبي الزناد أم لا. وقال الخطابي: حديث ابن حجر أثبت منه. قال: وزعم بعض العلماء أنه منسوخ، ولهذا لم يحسنه الترمذي وحكم بغرابته وحسن حديث وائل. قالوا: وقد قال في حديث أبي هريرة: «لا يبرك كما يبرك البعير» والبعير إذا برك بدأ بيديه قبل ركبتيه، هذا النهي لا يمانع قوله: «وليضع يديه قبل ركبتيه» بل ينافيه ويدل على أن هذه الزيادة غير محفوظة، ولعل لفظها انقلب على بعض الرواة. قالوا: ويدل على ترجيح هذا أمران آخران: أحدهما: ما رواه أبو داود من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه في الصلاة. وفي لفظ: نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة. ولا ريب أنه إذا وضع يديه قبل ركبتيه اعتمد عليهما، فيكون قد أوقع جزءا من الصلاة معتمدا على يديه على الأرض. وأيضا، فهذا الاعتماد في السجود نظير الاعتماد في الرفع منه سواء، فإذا نهي عن ذلك كان نظيره كذلك. والثاني: أن المصلي في انحطاطه ينحط منه إلى الأرض الأقرب إليها حتى ينتهي إلى أعلى ما فيه وهو وجهه، فإذا رفع رأسه من السجود ارتفع أعلى ما فيه أولا ثم الذي دونه حتى يكون آخر ما يرتفع منه ركبتيه. وخالف الإمام الألباني رحمه الله في كتاب "الصلاة" هذه الرواية وجزم بتقديم اليدين على الركبتين معتمدا على ما رواه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم –وصححه- ووافقه الذهبي. الخلاصة:بعد مقارنة أدلة الجميع يتضح أن ما جزم به أبو داود من تقديم اليدين على الركبتين هو الأصح، لأنه -كما قال- قول أهل الحديث وعمل أهل المدينة المنورة وقال به من الأئمة: مالك وعند أحمد نحوه كما في "التحقيق" لابن الجوزي. والله أعلم. 89- رواه: البخاري ومسلم. 90- رواه: مسلم وأبو عَوانة. 91- رواه: أبو داود، وابن خزيمة والترمذي وصححاه. قلت: وروى الدارقطني والحاكم وصححه -ووافقه الذهبي- أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ صَلاةَ لِمَن لاَ يُصِيبُ أَنفَهُ مِنَ الأَرْضِ مَا يُصِيبُ الْجَبِينَ» وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ (وَأَشَارَ بِيَدِهِ علَى أَنفِهِ) وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافَ الْقَدَمَيْنِ وَلاَ نكفت الثِّيَابَ وَالشَّعَرَ». 92- رواه: البخاري ومسلم وابن خزيمة. 93- رواه: مسلم وأبو عَوانة. قلت: وروى أبو داود وابن ماجه بسند حسن أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: إن كنا لنأوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجافي يديه عن جنبيه إذا سجد. 94- رواه: أبو داود وابن خزيمة والترمذي وصححاه. 95- رواه: أبو داود وابن خزيمة والنسائي بسند صحيح. 96- رواه: الطحاوي والحاكم -وصححه- ووافقه الذهبي وابن خزيمة. قلت:وروى البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اعتدلوا فِي السُّجُودِ وَلاَ يَبْسُطْ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انبساط الْكَلْبِ». 97- رواه: البخاري وأبو داود وابن خزيمة. 98- رواه: أحمد وأبو داود وابن خزيمة وابن ماجه والدارقطني والطحاوي والبزار والطبراني في الكبير بلفظ «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأَعْلَى» ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. وروى أبو داود والدارقطني وأحمد والطبراني والبيهقي أنه كان صلى الله عليه وسلم يضيف إلى هذا التسبيح «وَبِحَمْدِهِ». 99- رواه: البخاري ومسلم. 100- رواه: مسلم وأبو عَوانة. 101- رواه: مسلم وأبو عَوانة وابن خزيمة. 102- ولفظ الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما –وابن خزيمة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمَنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ». قلت: وأخرج مسلم وأبو عَوانة والبيهقي حديثا يؤكد طلب الدعاء في هذا الركن من الصلاة؛ وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ -وهو الصادق المصدوق-: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِن رَبِّهِ وَهو سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ». 103- رواه: مسلم وأبو عَوانة وأبو داود والنسائي والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن. قلت: وأخرجه أحمد من طريق ابن إسحاق مُطَوَّلاً. 104- أخرجه أحمد عن ثوبان بلفظ: «مَا مِن مُسْلِمٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً». قلت: وذكر الإمام الألباني رحمه الله في الجزء الثاني من كتابه "إرواء الغليل" أن رجاله ثقات، لكنه منقطع؛ فإن سالما لم يلق ثوبان. قلت: وللحديث طريق أخرى عند أبي نعيم في "الحلية". 105- رواه: البخاري ومسلم. 106- قلت: والظاهر أن الإمام محمدا رحمه الله اعتمد على إحدى الروايات وجزم بها ولم يأخذ بما رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم كان أحيانا يرفع يديه مع هذا التكبير. 107- رواه: مسلم وأبو عَوانة وابن خزيمة. 108- رواه: البخاري والبيهقي وابن خزيمة. 109- قلت: والظاهر أن الإمام محمدا جزم بما جزم به قبله الإمام ابن القيم رحمهما الله، بأنه صلى الله عليه وسلم، لم يحفظ عنه في هذا الموضع جلسة غير الافتراش، وفاتهما -على جلالتهما- ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كان، أحيانا، يُقْعِي (بمعنى ينتصب على عقبيه وصدور قدميه). وهذا الإقعاء قد رواه أيضا: أبو داود وابن خزيمة وأبو عَوانة والبيهقي وصححه ابن حجر. والله أعلم. 110- رواه: مسلم وأبو عَوانة وابن خزيمة. 111- رواه: أبو داود وابن خزيمة والنسائي بسند صحيح. 112- أخرجه: أبو داود وابن خزيمة والنسائي بسند صحيح في جلسة التشهد، وليس في الجلوس بين السجدتين كما قاله المصنف رحمه الله. تنبيه مهم: هذا التحليق وتحريك الأصبع يدعو بها لا يكون إلا في التشهد الأول والأخير إذ لم ينقل عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه فعله في الجلوس بين السجدتين، ولعل ذكر الإمام محمد له هنا يكون من سبق القلم. والله أعلم. قلت: وروى النسائي والبيهقي بسند صحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يفعل هذا التحليق والدعاء في التشهدين جميعا. 113- رواه: أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم –وصححه- ووافقه الذهبي. 114- رواه: ابن ماجه بسند حسن. 115- رواه: البخاري ومسلم وابن خزيمة. قلت: وروى الشيخان أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هذا الجلوس بين السجدتين حتى يكون قريبا من سجدته. 116- رواه: البخاري ومسلم. 117- قلت: وهذا الاعتماد على الفخذين الذي ورد هنا في الجزء الأخير من هذا الحديث، وعدم الاعتماد على الأرض في النهوض إلى الركعة ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، بل كان صلى الله عليه وسلم -كما رواه البخاري والشافعي- ينهض معتمدا على الأرض إلى الركعة الثانية. وروى أبو إسحاق الحربي بسند صالح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجن في الصلاة: يعتمد على يديه إذا قام.ومعنى هذا الحديث أيضا عند البيهقي بسند صحيح ومن هنا يتضح أن كل حديث يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة في صفة نهوضه صلى الله عليه وسلم إلى الركعة فهو ضعيف أو موضوع. والله أعلم. |