خلاصة البحث
الأربعاء, 19 أكتوبر 2022 07:21

 

(الحلقة السادسة والعشرون)

 

        أقول -وما توفيقي إلا بالله-: الزكاة لا تجب إلا في مالٍ نَاٍم بالفعل أو مُعَدٍّ لِلنَّمَاءِ؛ ولهذا قرر العلماء أن ذلك شرط من شروط وجوبها. وعروض التجارة من شأنها أن تدر على صاحبها ربحا. ومع هذا نجد من ذكرتهم آنفا -وهم من أئمة الهدى- يضيقون وعاء الزكاة ويقولون بعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة. وبنوا مذهبهم على ما يلي:

ـ حرمة مال المسلم التي ثبتت بالنصوص الصحيحة الصريحة؛ ومنها ما جاء في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «… إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ …» -والحديث مخرج في كتابي "صفة صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وصفة حجته" (ص91)- وقالوا: فلا يجوز أن يؤخذ من ماله شيء إلا بنص.

ـ أن الزكاة تكليف شرعي والأصل براءة الذمم من التكاليف إلا ما جاء به نص؛ ولا مجال للقياس هنا لئلا نشرع ما لم يأذن به الله.

ـ أن الأحاديث والآثار التي استدل بها الموجبون للزكاة في العروضضعيفة لا تقوم بها حجة.

قلت: ولإفادة القراء الكرام علقت على تلك الأحاديث وخرجتها وبينت درجتها.

ـ وخالف الجمهور هذا القول وذهبوا إلى توسيع دائرة تطبيق الزكاة وتجاوزوا المنصوص عليه قياسا لغيرهم عليه. وبنى الجمهور رأيه على أصول؛ منها:

ـ أن عموميات القرآن والسنة تثبت أن في كل مال حقا وهذا الحق هو ما يعبر عنه بالزكاة أو الصدقة، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} (سورة المعارج، الآية: 24) وقوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (سورة التوبة الآية 103).

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ -عند البخاري وغيره-: «… فأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً …».

        وقال الجمهور: إن هذا عام في جميع الأموال النامية فلم يجز استثناء شيء إلا بدليل ولا دليل هنا.

وقالوا أيضا: إن القياس أصل من أصول الشريعة عند جمهور الأئمة؛ ولهذا رأى أهل العلم قياس كل مال نامٍ على الأموال التي أخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة.

ويظهر لي والله أعلم:

ـ أن الزكاة في عين عروض التجارة كما في عين الثروة الحيوانية لم يقم عليها دليل من كتاب ولا سنة صحيحة؛ بل الزكاة تكون في أصل العروض إذا بلغ النصاب من الذهب أو الفضة.

ـ أن من تدبر ما أخرجه ابن زنجويه في كتابه "الأموال" عن عطاء المذكور آنفا يجده في حقيقته موجبا للزكاة في أصل العروض مع أن ظاهره ينافي ذلك: قوله في الأثر المتقدم ذكره ردا على ما سئل عنه في وجوب زكاة عروض التجارة: "لا ولكن ما كان من ذهب أو فضة اخرج منه زكاته…" ذلك أن التاجر اشترى ما يعده للتجارة بعملة -كالدولار مثلا- وهذا الدولار مقوم بالذهب؛ لأنه ينوب عنه في التعامل، وتقدر قيمة الدولار الأمريكي باثني عشر (12) جراما للدولار الواحد. وعلى هذا يكون صاحب عروض التجارة واجبا عليه إذا حال عليه الحول أن يقوم عروضه ويردها إلى أصلها من الذهبويزكيه إذا بلغ هذا الأصل النصاب وهو عشرون (20) مثقالا؛ ووزنها سبعون جراما (70) ويخرج منه ربع العشر (وهو 2,5%).

ويسأل عن سعر الجرام من الذهب بعملة بلده يوم زكاته ويخرجه منها.

        ودليل هذا أن الإجماع -فيما علمت- منعقد على وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول.

فائدة: قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (7/48) ما نصه: "فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع. وأما الذهب فعشرون مثقالا، والمعول فيه على الإجماع".

        وقال الفيروز أبادي صاحب "القاموس المحيط" (مادة: مكك) ما نصه: "والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم؛ والدرهم: ستة دوانق، والدانق قيراطان".

قلت: ووزن الدرهم يتراوح بين جرامين وثلاثة جرامات وثلث الجرام؛ وعلى هذا يقول الشيخ أبو بكر الجزائري في كتابه "الجمل في زكاة العمل": (27-28) إن عشرين دينارا وزنها سبعون جراما (70).

        وعليه يكون النصاب من الأوقية الموريتانية سعر سبعين جراما من الذهب يوم وجوب الزكاة.

1ـ من قال بعدم وجوب الزكاة في قيمة عروض التجارة فاته أن هذه القيمة هي التي تمثل الثروة الاقتصادية النامية في جميع بلاد المسلمين، وأن من حرم منها المستحقين للزكاة فقد حاد عن أهداف الزكاة؛ ألا وهي: تطهير المال، وتنميته، والمنافسة في الخير، وإبراز روح التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع.

2ـ إذا حرم الفقير من حقه في قيمة عروض التجارة ولم يبق له إلا حق الثروة الحيوانية والزراعية فإنه سيظل فقيرا إلى ما شاء الله، وهذا مناف لأهداف الزكاة. والله أعلم.

* طالع في الحلقة القادمة: زكاة الحلي